كثيرا ما تلمح اعيننا صور الشعب في شمال وشرق سوريا يحملن صور الشهداء والشهيدات, بمراسم ومسيرات تخفق لها الأفئدة, فما السر في هذا الرابط المتين؟ وما هو البعد الاجتماعي لهذه المنظومة التي جاب اسمها العالم؟
يؤول التأثير الإيجابي للبعد المجتمعي إلى الغنى الإيديولوجي, فالإيديولوجية التي تبنتها المرأة في شمال وشرق سوريا وعموم كردستان استندت على اسس الحياة الحرة, وثقافة الأمة الديمقراطية التي قدمها القائد اوجلان كحل لمشاكل الشرق الأوسط , وهدف لخلق مجتمعات متكاتفة بالرغم من تنوع ثقافاتها ومفاهيمها للحياة, كون الأنظمة خلقت سدوداً بين المكونات المختلفة والطوائف المتعددة لهذه المنطقة, فعلم الاجتماع الذي كان العمود الفقري لإيديولوجية هذه المنظومة الدفاعية, كان له الدور الأبرز في تحقيق التحول الديمقراطي, والأهمية التي اولتها هذه المنظومة للقواعد السوسيولوجية ميزها, فخلق مجتمع يتجاوز كل الفروقات والألوان ويتقبل غيره, احتاج للاستناد على الخط الثالث والذي هو الجبهة المجتمعية.
وحدات حماية المرأة وكافة نساء شمال وشرق سوريا استندن على قوة المجتمع والتلون والتكاتف الذي جلب معه مجتمعا رصينا اخلاقيا ومعرفيا, فكما نعلم ان لكل مجتمع سوسيولوجية، و لكل سوسيولوجية مقاربتها النظرية, وبالتالي للمجتمعات خصائصها التي تميزها عن غيرها من المجتمعات سواء من الناحية السياسية، الاقتصادية، الثقافية، القيمية، المعيارية و الدينية أو من الناحية المعرفية. بما أن لكل سوسيولوجية مقاربتها النظرية فيمكننا أن نتساءل عن مدي موافقة النظريات السوسيولوجية كالوظيفية و التفاعلية الرمزية لنظم اجتماعية مختلفة عن تلك التي نشأت فيها. فإذا تطرقنا لهذه النظريات فنجد أن لكل واحدة منها تاريخها الخاص بها و المرتبط بالصيرورة المعرفية لها, فسواء على مستوى الظروف التاريخية أو على مستوى الدعائم الإبستمولوجية فكل نظرية مجتمعية تعبر عن سوسيولوجية خاصة. من خلال هذه التعريفات ، يمكننا فهم ماهية البعد الاجتماعي الذي يمكننا تعريفه بمجموعة العوامل المرتبطة بالعلاقات المتبادلة بين الناس والحياة في المجتمع , ويمكن فهم البعد الاجتماعي حسب مفهومنا على أنه يرتبط بتنشئة الفرد ، وبالتالي عملنا على تطوير جميع الأدوات المتأصلة بالبعد الاجتماعي.
تم التركيز على وجوب انتهاج هذا التجمع النسوي لمعايير ومبادئ ترتكز على مقومات الحياة التشاركية, وتتبنى العلاقة الطردية بين مقاييس الحياة والحرب ايضاً, كون تلك المقاييس تجذر من حس المسؤولية في التضحية من أجل حماية بعضهن ضمن هول المعارك, وهذا يشكل الدافع الرئيس ونقطة الجذب المحورية لانضمام النساء لصفوفها والتفاف المجتمع حولها أكثر, كونها تكتنف المحبة، الإيثار, الإحترام المتبادل ونكران الذات, وهذا بتأهيل الذات وتربية النفس التي تفسح المجال امام كل طاقاتها الكامنة وقدراتها لخدمة هذه العقيدة بروح الرفاقية, بالإضافة إلى غض النظر عن الانتماء القومي, الثقافي, الديني والاثني, وهذا كفيل بخلق الصدى الأعمق لهذه الوحدات ضمن المجتمع, وما سيميزها عن اي منظومة سابقة, وتضحى بذلك مثالاً للتعايش السلمي بين النساء من كافة المكونات, بتحليها بقواعد الأخلاق المجتمعية, وحماية القيم المادية والمعنوية, حسب الثوابت التي تأسست عليها بوصفها القوة الحامية والضامنة للعيش المشترك, وتحقيق التكاتف والتناغم بين كافة المكونات في سوريا, والالتزام بالمصلحة الوطنية وحماية النسيج الاجتماعي, لأجل بناء مجتمع أخلاقي وسياسي, بذهنية منفتحة للغنى المجتمعي, ورافضة للمفاهيم العنصرية والقومية والطائفية والمذهبية وغيرها. وهادفة لضمانة المشاركة الفعلية للنساء على كافة الصعد السياسية والثقافية والمجتمعية بمفهومها الصحيح على أساس الحياة الندية بين الرجل والمرأة و إزالة التمييز الجنسوي في عملية التغيير والتحول الذهني.
ظهر جليا في فكر هذه الوحدات وتقرباتها المجتمعية ان التنظيم لا يكون مستدامًا اجتماعيًا, إلا في حال حقق العدالة الاجتماعية والمشاركة والتكاتف. فكل عضوة في وحدات حماية المرأة في بداية قرارها بالانتساب إلى قوات الحماية, تستند على النظام الداخلي للوحدات والذي يتضمن حماية القيم المجتمعية بالدرجة الأولى, وأيضا كبند رئيس في نظامها الداخلي. كما تقسم على الدفاع عن المرأة والمجتمع والقيم المعنوية للشعوب, وقد ارتقت المئات من هذه الوحدات للشهادة في سبيل حماية هذه القيم المجتمعية, هذه حقيقة ادركها العالم وقد كانت بينهن نساء أمميات أيضا استشهدن في سبيل حماية قيم المرأة التي هي بالتالي تبقي المجتمعات متماسكة, , فأنّ الغاية من تشكيل المنظومة الدفاعية للمرأة، ليست مقتصرة على تأهيلها لإكتساب الخبرة والمهارة العسكرية كجندية أو مقاتلة, إنما هي تهيئة لاسترداد الكينونة المجتمعية المتكاملة..وقد عبر المجتمع بالتالي عن فخره بهن وكنوع من تخليدهن, يتم تسمية العشرات من الوليدات بأسمائهن, امتنانا وتقديسا لتضحياتهن الجسيمة. فتلك النساء الشهيدات كنَ قصصا لحماية الثقافة المجتمعية والتي ستخلدها الذاكرة الشعبية
اكتسبت منظومتنا صفتها المجتمعية, بالإضافة لصفاتها الحامية والمدافعة, وإحدثت تغييرات جذرية في الوسط المجتمعي وحتى الأسري, وريادة الثورة بتحويلها الى ثورة ثقافية, أخلاقية ونموذجاً لحياة سامية في علاقة الرجل والمرأة, وما فاق كل هذا ترسيخ ثقة المرأة بقدرات وطاقات المرأة, وزوال كل الفروقات الطبقية المكتسبة من موروث النظام الطبقي من المجتمع النسوي وعدم الإعتماد على أي سند مصطنع .
تم التركيز على إيلاء الأولوية للنوعية مع أخذ الكمية بعين الإعتبار في انتساب العضوات, من خلال تكريس اسلوب الحياة المنضبطة والتدريب المكثف, بحيث يكون الدعامة الأمتن والأرضية الخصبة فكرياً وفلسفياً للعضوة,كون هذه العضوة في علاقة مباشرة وانعكاسية تناسبية مع المجتمع, فالغاية القصوى من تشكيل وحدات نسائية, هي السمو بالمرأة وتحقيق كيانها المستقل وذاتيها الحرة, بالرغم من كافة التحديات التي ستواجهها الوحدات في عملية التغيير و التحول الذاتي – المجتمعي, منها العزم والإرادة والإصرار في عملية التغيير, وهذا بحد ذاته يعتمد على وعي و معرفة وأفق تستمد منها القوة في دفع آلية التطور على كافة المجالات. اجتذاب النساء لصفوفها وبناء شخصياتهن وثقتهن بأنفسهن وببنات جنسهن, استناداً على قوتهنّ الجوهرية بتبنيها نهج الدفاع المشروع بكافة مبادئه ومعاييره لحماية الذات والقيم المجتمعية. واستنادها في تطلعاتها على التوعية والتنمية في كافة المجالات الحياتية بمعايير أخلاقية وفلسفية تهدف إلى رفع الوعي المجتمعي والتكامل في الأبعاد المجتمعية أخلاقيا وثقافيا, وتحقيق علاقة متوازنة فيما بين الفرد والمجتمع بشكل عملياتي.. وهذا كان من اكبرالتحديات .
تميزت وحدات حماية المراة بالإبتعاد عن خصائص المرأة العبدة والمستسلمة وتجنبت الإنجراف في دوامات الإستبداد والتسلط ,وأيضاً خلقت طرازا جديدا في علاقة الرجل والمرأة, على أسس ومبادىء فلسفة الحياة الندية والإحترام المتبادل البعيد عن الطراز التقليدي, والتي تتضمن الصداقة والرفاقية بمعايير ثورية ووطنية. ومن التحديات التي احتاجت لجرأة أكثر هو تغيير منظور المجتمع للمرأة والرجل في إطار ثقافة وأخلاق أكثر ارتقاءً, كضرورة ملحة في اطار استراتيجية مدروسة وممنهجة تهدف لربط المجتمع فكريا وثقافيا.
أصبحت المرأة في روج آفا ثورة مجتمعية بحد ذاتها, ومن خلال تجربة بادية للعيان وتشهد لها الدلائل الحية والموثوقة والمعاشة على أرض الواقع والتي بدأت في شمال وشرق سوريا وانطلاقاً من تجربة الرئاسة المشتركة المطبقة في كافة هيئات ومؤسسات الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا والتي هي مثال المساواة وتطبيقها عملياً, هذا كله نتاج ثورة روج آفا التي اشتهرت عالمياً بثورة المرأة وتميزت بايلاء الأهمية للغنى المجتمعي، هذه المرأة التي تحدت كافة القيود والعراقيل التي كانت تحول بينها وبين ممارسة دورها الطبيعي ومكانتها المهمة والمحورية في المجتمع وقد حققت قفزة تطور نوعية وهامة على صعد النضال والكفاح من أجل قضية المرأة وتوطيد مجتمع متحرر خالٍ من التمييز الجنسي, بالإضافة إلى ما جلبه هذا الواقع من تفعيل لطاقات المرأة الكامنة وتحويلها لطاقة ديناميكية, فهذه العملية تعتبر اساسا لتخليص المجتمع من حالة الركود التي طالته لزمن طويل نتيجة قمع الانظمة وامتصاصها لهذه الطاقات بشتى الوسائل, وبغرض تخليص مجتمعنا الشرقيّ الصبغة من الجمود الفكري وتفجير طاقاته, فقد وجب انشاء مُنظمات ومؤسسات نسائية خاصّة مثل” مؤتمر ستار- هيئة المرأة- منظمة سارة- بيوت المرأة…”، حيث تتبنى هذه الأطراف تفعيل وتنظيم طاقات النساء للقيام بدورهن الريادي في المجتمع وأخذت على عاتقها أيضاً العمل على زيادة الوعي عبر الثقافة الديمقراطية وكما تحارب كل منها الأفكار الخاطئة التي نسبت للمرأة وتعمل على تصحيح العلاقة بين الرجل والمرأة وتهدف هذه الجهات الى اشراك المرأة في مختلف النشاطات السلمية وتحيي دورها على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والتربوية وحتى في مجال الحماية ومهام الدفاع وكما تعمل على تعزيز ثقتهن ببعضهن وتحفيز قدرتهن على حل مشاكلهن بأنفسهن.
ختاما يمكننا البت بان هذه الثورة التي اشتهرت بثورة المرأة, وجذورها المجتمعية, وتفرعاتها الفكرية لخلق وحدة مجتمعية متكاملة, من خلال التفرع ضمن النسيج المجتمعي، فكل عضوة هي فرد من هذا المجتمع, ويطالها ما يطال المجتمع, لذا بعدها المجتمعي ذات علامة فارقة في ديمومة وتأصيل الثورة, فالتعايش مع المشاكل المجتمعية والانتفاض لكل ما يحاول حجب الحق والحرية لهذا المجتمع خلق منها منظومة مجتمعية بالدرجة الأولى.