تميزت وحدات حماية المرأة بتغييرها للمفاهيم واظهارها لمصطلحات لم تكن متداولة, كالمجتمعية والثقافة البنيوية واحياء التراث الشعبي, من خلال علاقاتها المتبادلة ضمن مجموعاتها والمجتمع وحتى مع الشعوب الصديقة, فاعادة ترتيبها للموازين حسب اولويات الشعوب والمنطقة على اسس ايديولوجية شعبية, فحتى الكلمات التي تداولتها فيما بينها اصبحت ثقافة تميزها عن غيرها من الجيوش, فكلمة هفال بمعنى رفيقة جذبت الثوريات من كافة اصقاع الأرض وهذه الكلمة تميزت بقابلية فهم مضمونها من ناطقي كافة اللغات, والى جانب طرازها في اللباس والانتظام والضبط العسكري وحتى بعض الرموز التي استخدمتها سواء في طرية ضفر شعرها وابتسامتها في هول المعارك اصبحت سمة وثقافة تختص بها وحتى تسائلت الكثير من وسائل الاعلام عن سر هذه الابتسامة ضمن اشرس الهجمات التي واجهتها وايضا الزغاريد التي تميزت بها عندما كانت تحرر النساء كانت مصدر قوة وفخر , فما هذا البعد الثقافي الذي حرك العالم وجابة بأدق تفاصيله إلى اعقدها؟
العلامة الفارقة كانت علاقتها بوسطها النسوي والمجتمعي, وتبنيها لنهج قوي تستمد منه القوة وتمد به مجتمعها, فكان التعريف المتداول للثقافة حسب علماء العلوم الانسانية والنفسية والاجتماعية الثقافة بشكل شمولي, على أنها الكل المركب الذي يشمل العلوم والمعرفة والمعتقدات والقيم والأعراف والعادات, وأيضا الفنون والفلكلور الشعبي والعادات التي يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع, زادت وحدات حماية المرأة هذا التعريف بصمة انثوية, فتبنيها لعلم المرأة الجنولوجيا, العلم الذي قدمه الفيلسوف الكردي عبد الله اوجلان خلق نظرة جديدة للعلوم بعين المرأة وبالتالي اغنت المنطقة باسلوب عملي للتفكير في كيفية كتابة التاريخ النسوي, وسعت من خلال تقديم هذه الثقافة للمجتمع خلق فضول علمي لدى كافة النساء للبحث عن جوهرهن أكثر.
لقد تطرقنا في الحلقة السابقة إلى البعد المجتمعي والذي هو الركن الأساسي لثقافة المجتمع, وبما ان وحدات حماية المرأة تبنت منذ تأسيسها حماية المجتمع فهنا يكون من البديهي جدا تبنيها للثقافة, فما هي الثقافة التي ترتكز عليها هذه الوحدات وما هي طريقتها لحماية الثقافة في مجتمع متنوع ثقافيا؟ كان هذا العنصر البارز والمميز في ايديولوجية هذه الوحدات
اذا تناولنا مجتمعا متنوعا بثقافات عريقة كمجتمع روجافا, نجد ان هذه الثقافات تحدت الانصهار والانحلال لحد كبير، كونها كانت تتعرض لهجمات على جبهات عدة سياسية, دولتية , دينية وحتى استعمارية, وببروز وحدات حماية المرأة ومنظومة قوات سوريا الديمقراطية بشكل عام, كقوة مجتمعية تضم داخلها كافة مكونات روجافا بثقافاتهم المتنوعة, وهذا استنادا كما ذكرنا على مفهوم ثقافة الأمة الديمقراطية التي تحوي ضمنها كافة الثقافات المختلفة للشعوب التي تعيش ضمن جغرافية واحدة, هذا جعل هذه المنظومة الضامن لاستمرار هذه الثقافات بل حتى تحررها من القمع الذي كان يطالها, فالركيزة الأساسية ونقطة الاختلاف كانت الصفة المجتمعية على عكس ثقافة الجيوش التي تكون الضامن لثقافة الدولة بطابع القتل والقمع ومحاربة القيم المجتمعية. وتبدي وحدات حماية المرأة أهمية كبرى للأخلاق والثقافة المجتمعية, لانها تؤمن بأن ثقافة المجتمعات هي الشريان النابض بالحياة والذي يضمن استمراريتها.
وحدات حماية المرأة تعي جيدا ان الثقافة هي ذلك الجزء من البيئة الانسانية والمجتمعية التي صنعها كل من الفرد والمجتمع متمثلة في الأفكار والمثل والمعارف والمعتقدات وطرق التفكير والعادات وطرق معيشة الأفراد الذي يسيرون عليه، وهذا ما يتميز بها مجتمع عن آخر وتؤدي إلي تحقيق وظائف الحياة الاجتماعية, لذا تبذل كافة جهودها لحماية هذا النسيج المتنوع وتقدم التضحيات بشكل مستمر لحماية المنظومة المجتمعية والثقافية للمنطقة.
ان جوهر الشعوب مقترن بقوة ثقافتها وامتدادها تاريخيا والثقافة الموجودة لدى الشعوب تعبر عن مدى أصالتها, وترمز أيضا إلى وجودها التاريخي وبالتالي تحمل في طياتها عادات وتقاليد وأعراف تلك المجتمعات, وبالطبع كل هذه المحاور ترتبط ارتباطا وثيقا بالأرض التي تتواجد عليها هذه الثقافة, لذا نجد الدول التي تستهدف ثقافة شعب ما تتهافت لتدمير كافة الأواصر التاريخية الثقافية لهذه الشعوب, وتعمل على استئصالها أو نسبها لذاته, ليشرعن احتلاله عن طريق ابادة ثقافة المناطق التي يحتلها, والتاريخ مليء بتجارب الشعوب في الانتفاض ضد تشويه ثقافاتهم ومحاولات فرض اللغات القسرية والإبادة العرقية.
لا يمكننا الفصل بين الثقافة والمفاهيم السياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية. فالنظام السياسي أيضا جزء منها ويميز المجتمع عن غيره من المجتمعات وهو بذلك تكنولوجيا تنظيم القوة والإدارة وآليات الحكم فى مجتمع معين, كما ان للثقافة بعدها القومي والوطني لدى الوحدات, فاختلاف الثقافات للجغرافية التي تحميها جعلتها ذو مفهوم اممي لاحتضان كافة الثقافات ووجدت نفسها المسؤولة عن حماية مختلف العقائد والأطياف في جغرافية روجافا . وهذا البعد الثقافي المجتمعي ينم عن حس قومي ووطني عالي, وبذلك تضمن الاستمرار التاريخي لشعوب روجافا وخلق الوحدة بين فئات المجتمع.
ظهر الغنى الثقافي لوحدات حماية المرأة في التفاف النساء حول منظومتها وبالتالي ترسخت العلاقة بين المرأة في جبهات القتال مع المرأة في القطاعات المختلفة يدا بيد, هي تحمي وتضحي بروحها في سبيل ان تعيش مثيلاتها دورهن الفعال في قطاعات العمل, وهذا التلاحم جعل منها القدوة المثلى للمجتمع, حتى ان الفتيات اصبحت تقلد تنظيمها وتحاول ان تتبناه في شخصها وعائلتها ومجتمعها, فخلقت لدى النساء قوة الدفع الايجابي كونهن اصبحن على ثقة تامة ان لديهن قوة خاصة بهن تسندهن لينطلقوا في عملهن في الادوار المتنوعة, والتلاحم ظهر بأشكال مختلفة فصور هذه الشهيدات تجدها على صدر المراة السياسية والادارية والعاملات في القطاع المدني, هذه كلها مكتسبات هذه الثقافة التي وحدت الكل مع الكل. والمبهر في هذه الثقافة انها نسفت الحدود المصطنعة ولم تعد تنحصر في نطاقات اقليمية ومناطقية, بل امتدت للأممية, فصورهن ورموزهن اصبحت تزين ساحات العالم وباتت شعوب العالم تفخر بكونها لديها علاقات شعبية مع هذه الوحدات, حتى ان بعض النساء كانت كمن تعيش الحلم وتحاول لمسهن لتتاكد من ان هذا واقع يعشنه وانه اصبح هناك جيش نسوي بمعايير انسانية اممية لا تفرق على اسس ثقافية وطائفية وعقائدية.
تعد ثقافة شعب ما طريقته واسلوبه الخاص في العيش, وطرق معاملته مع الظروف الحياتية والمجتمعية وموقفه ازائها وفلسفته في التعامل معها. إذ تستحوذ ثقافة الشعوب كافة تفاصيله في الحياة كالمأكل والملبس والمسكن والأقاصيص والأغاني والأمثال الشعبية والعلاقات بين أفراد وعلاقات الأفراد بالمجتمع الموجود, فكما لكل أسرة خصوصياتها في التربية والتعامل بين أفرادها كذلك الأمر بالنسبة للمجتمعات وبالإضافة الظروف البيئية والتجارب الطويلة للشعوب, فاذا ما تناولنا مقوماً من مقومات الثقافة الأساسية وهي اللغة فهي تتأثر بالحقب الزمنية فتتغير او تتلاشى أو تزدهر وفقاً للأوضاع الجيوسياسية التي تمر على المنطقة فمثال ذلك اللغة الكردية نجد أنه وبفعل التقسيمات الحدودية التي حصلت على أجزاء كردستان واحتلال كل جزء من قبل نظام مستبد مختلف نجد تغير اللهجات نظراً لمحاولات التغيير الثقافي بحقهم ومنع التحدث والتعلم باللغة الكردية لذا ظهرت لهجات مختلفة حسب الدولة المحتلة فتداخلت مع العربية والتركية والفارسية ولا زالت هذه الدول تحاول بشتى الوسائل تغيير البنية الثقافية للكرد بكافة الطرق وتسعى لإبادة عرقية وثقافية للشعب الكردي ففي سوريا نجد خوف الدولتين التركية والسورية من تلاحم الشعب في كردستان تركيا وكردستان سوريا لجأت تلك الدول لسياسات قذرة من مشاريع تقوض الوجود الكردي كالحزام العربي في عام 1965 حيث بني حزام عربي طوله 350 كم وعرضه 10–15 كم على طول الحدود السورية – التركية. وقد وصل الحزام إلى أقصى الحدود العراقية في الشرق إلى رأس العين في الغرب وكانت الخطة الفعلية عمل جدار سكاني عربي عازل بين جزئي كردستان وتم تهجير الكرد على طول الخط الحدودي قسراً وتوطين عرب اقحاح بدلا عنهم, هذه سياسات ترتقي لجرائم بحق ثقافة السكان الأصليين.
تعتبر الناحية السياسية اكثر وقعا على ثقافة الشعوب وتعقيدا، فغياب مكونات معينة عن العقد الاجتماعي في عديد من البلدان, حيث طُرد السكان الأصليون من أراضيهم وشوهت ثقافاتهم ولغاتهم وهمشت مشاركتهم في الأنشطة السياسية والاقتصادية , ولم يُدرج السكان الأصليون أصلا في العقد الاجتماعي القائم فيها، ونشأت تلك العقود الاجتماعية بين الأطراف المهيمنة. وبحسب اليونسكو تشير البيانات المتاحة حالياً إلى أن نسبة 40% من أصل 7 آلاف لغة مستخدمة في العالم معرضة بدرجات متفاوتة إلى خطر الاندثار، وفي حين يصعب الحصول على أرقام موثوق بها، يتفق الخبراء على أن لغات الشعوب الأصلية أضعف من غيرها لأن معظمها لا يُدرّس في المدارس أو لا يُستخدم في الحقل العام. فالثقافة تمثل هوية الشعب وتنوعه ضمن الشعوب الأخرى وانكارها يعود بضعف في تطورها.
الثقافة ترتبط ارتباطا وثيقا مع الحرية فحرية التعلم باللغة والحرية السياسية والعقائدية وممارسة الطقوس الدينية والفكرية الخاصة بشعب ما امر مهم لاستمراريتها, وكما ينضوي اللباس والزي التقليدي والفلكلور تحت مفهوم الثقافة وفي يومنا هذا تؤثر مظاهر الحضارة بشكل كبير في اضمحلال الثقافات فالانتقال من الثقافة الى الحضارة اصبحت جميع الشعوب تتشابه في نفس طرق المأكل والمشرب والمسكن وانواع الموسيقى وبهذا يتلاشى طابع الشخصية الشعبية الاصيلة ومأكولاتها وعاداتها الشعبية لتحل محلها عادات عامة لذا نجد ان الشعوب الأصلية تكافح وتجتهد للمحافظة على موروثها وتحول دون ضياعه مع تفشي مظاهر الحضارة, فتعمل على جمع الأغاني و الأمثال والموسيقى وكافة انواع الفلكلور والموروث الشعبي الخاص بها.
تميزت الثقافة الكردية بشكل لافت بتصدر المرأة للمجتمع الكردي وتوليها زمام الأمور سواء في المنزل, القرية, وضمن المجتمع وكما اتخذت موقعها في صدارة الثورات الثقافية والوطنية الكردية, وكانت الأم, ربة المنزل, الكاتبة, الشاعرة, الفنانة والقائدة فامتدادا من ثورات جبال كردستان وإلى ثورة روجافا توالت مسيرتها وكبرت لتصل إلى المحافل الدولية, وتدير المجتمع وتدفع ايجابياً بدفة المجتمع نحو التطور والتقدم من جهة والعودة إلى التراث الشعبي واحياءه من جهة , فقد تميزت ثورة روجافا بريادة المرأة بكونها ثورة الثقافة واللغة الأم التي تمثل كما ذكرنا سابقاً العصب الرئيسي للموروث الشعبي, وتم احياء اللغة والتاريخ المشترك لكافة المكونات المضطهدة في المنطقة والمحرومة من التعلم بلغتها وممارسة شعائرها الوطنية والقومية وفي مقدمتهم الكرد.
انقذت الثورة المجتمعية في روجافا الأجيال الناشئة الذين كانت قد نالت منهم الحروب الخاصة قبل الثورة وكانوا يقلدون ما تقدمه الحرب الاعلامية التي انشأت عقولا رأسمالية لا يهمها سوى التصنع والتكلف وتقليد المشاهير في كافة تحركاتهم وهذه كانت سياسة ابادة ثقافية غير مستندة على العنف فقط, ولكنها تندرج تحت مسميي الحرب الخاصة والحرب الاعلامية الموجهة وقد اتاحت الثورة لشعوب المنطقة العودة إلى تاريخهم وفهمه ومعرفة الأدب والتاريخ والأعراف الشعبية للكرد ولكافة شعوب المنطقة, وكما نظمت الأغاني الشعبية المشتركة بين مكونات روجافا كنموذج للتلاحم الشعبي والتاريخي لهم, بالإضافة لإنشاء معامل وورشات الغزل القديم والسجادات اليدوية التي تعكس تاريخا قديما للمنطقة.
نستطيع القول ان الثقافة المجتمعية هي مرآة الشعوب وبوابتها إلى الخلود من خلال المحافظة على الأخلاق المجتمعية والتراث واللغة واغنائها وتحديثها بما لا يتعارض مع مضمونها التاريخي, واليوم شعوب روجافا تسعى جاهدة لخلق تكاتف مجتمعي يكون درعا في وجه كافة المحاولات التي تهدف لإبادة ثقافتها العريقة والتي تمتد لمئات السنين, تلك الثقافات التي حاولت شعوب المنطقة بكافة امكانياتها الحفاظ عليها ليومنا هذا ووضعت وحدات حماية المرأة على عاتقها حماية هذه القيم الثقافية وضمان حماية تنوعها.