ما ميز ثورة روج آفا من الثورات الأخرى، هي انطلاقتها من روح تواقة للحرية، السلام والعدالة. فالشعب الكردي من أكثر الشعوب التي عانت آلام المخاض الدامي من الويلات و المآسي، جراء سياسة التنكيل، التعريب والانكار، لنظم خلدت عرشها على دماء المظلومين. انكرت تاريخه وعرقه واحتلت روحه وفكره ومحت كل ما يرتبط بنشوءه ووجوده، حتى أوصل به الى مستوى الشك في انتماءه وهويته، محاولا صهره في بوتقة الهيمنة الوافدة والمستحدثة المحتلة والمستعمرة، بترهيب تجاوز كل قيم ومبادئ الفطرة الإنسانية، والمرأة الكردية عانت الأمرَّين، فمن طرف إرهاب هذه النظم ومن طرف آخر سوداوية الذهنية الذكورية وثقافتها، بحيث أوقعت بها في حالة أداة لا حول لها ولا قوة ، خائرة القوى وغريبة عن حقيقتها الكونية وحتى البيولوجية، ليس لها خارطة ولا عنوان، فقط أسماء دارجة حسب الأهواء والاذواق، لذا تحولت ثورة روجافا بكل عنفوانها الى ثورة المرأة التي صرحت بقولها من أنا ، حيث بدأت مسيرة البحث عن الذات.
كل انسان يبحث عن كينونته وهذه مسألة فطرية تحيا في داخل كل الانسان والمرأة تعيش هذا في ذروتها وعمقها، لأنها باحثة لذاتيتها التي سُلبِتْ منها والتي جعلتها تائهة في أعماق دهاليز العبودية الكلاسيكية والحديثة وبأسماء وألقاب عدة. لذا فالمرأة أكثر من تواجه تحديات في درب البحث عن الذات. وثورة المرأة في روجآفا وشمال شرق سوريا تحولت الى منبر لهذا البحث، الذي يضع وابلاً من الأسئلة أمامها، منها كيف نعيش؟ ما العمل؟ ومن أين البدء؟
يستحيل تحريرُ النفس والحياةِ، ما لَم تُعَاشْ ثورةٌ نسائيةٌ جذرية من ناحية الأيديولوجية والفلسفية وهذا في خلق شخصية جديدة وبناء المجتمع والوطن، وما لَم يَتَحَقَّقْ التغيرُ الجذريُّ في عقليةِ وحياةِ الرجل. فالحياةَ بِحَدِّ ذاتِها ستتحولُ إلى سَراب، ما لَم تتحررْ المرأةُ بصفتِها قمةَ الحياة. كما ستظَلُّ السعادةُ خيالاً أجوفاً، ما لَم تَتَحَقَّقْ مسالمةُ الرجلِ مع الحياة، والحياةِ مع المرأة ونعلم بأنه لا حدود للحقائقِ الاجتماعيةِ بشأنِ المرأةِ والحياةِ الحرة. لكنّ المجتمعَ والمرأةَ الشرقَ أوسطيَّين أُسُقطا بما فيه الكفاية، وأُخرِجا من كَينونتِهما، وصُيِّرا بمثابةِ موضوعٍ شيئيٍّ على يَدِ الانظمة التي عاشاها، والحداثةِ التي تَعَرَّضا لِغَزوِها. من هنا، فتحليلُ القضية الاجتماعيةِ عبر المرأة، والتوجُّهُ صوبَ حلِّها أيضاً عن طريقِ الظاهرةِ عينِها؛ إنما هو أسلوبٌ صحيح. ولا يُمكِنُ بلوغ الحقيقةِ بِخُطى سديدةٍ فيما يتعلقُ بِأُمِّ القضايا، إلا بفرضِ ثورةِ المرأة، التي هي أُمُّ الحلول، هذا ما نستنتجه من الكفاح الذي يهدف الى الانتماء الوطني و الكرامة الإنسانية قبل كل شي.
بيريفان وسلافا كن من السباقات في درب الشهادة ضمن وحدات حماية المرأة، فقد رسخن نهج الشهادة بمبادئ تحولت الى لبنات الخلود في مسيرة الكرامة. وبها تحولن الى ايقونات تتحلى بمبادئ رصينة، تحمل في داخلها الجمال الجوهري الذي لا يفنى، المجبول بروح الوطنية، والذي هو من دعائم أيديولوجية حركة حرية المراة، الذي يحمل بين جنباته حب التراب وعشق الوطن، البعيد عن الفكر القوموي، بل صلة روحية بين المرء ومجتمعه والإحساس بالهوية الوطنية والفداء والوفاء له.
رفيقة بيريفان كانت تؤمن إيماناً شديداً بقضية شعبها ومستعدة للتضحية بكل نفيس لأجل تحقيق أهداف الثورة. شخصية هفال بيريفان كانت تتميز بالانضباط، والتنظيم، كما كانت دقيقة وبعيداً عن الهمجية و الفوضى بل حساسة ووفية لقولها وتكريسه. فقد أصبحت للتضحية عنوان. لقد كانت اماَ لطفل، وبالرغم من ذلك لم تتردد لحظة واحدة في القيام بالواجب. فكلنا نعلم بعاطفة الأم والرابط الذي يجمعها بطفلها، فعندما منحت الجانب الأكبر من حياتها للنضال، لأنها أدركت بان الحياة الكريمة التي ستهديها لطفلها، يجب ان تخلقه والثمن هي التضحية بحياتها، فقد مزجت بين الحس الامومي والوطنية، فهل يوجد أغلى من هذه التضحية.
وحدت سلافا بين حياتها الشخصية والنضالية، كانت من السباقات في الانضمام الى الثورة ومثالاً للمرأة المناضلة والمكافحة، بأفكارها الوطنية وأحاسيسها العميقة خلدت ملحمة ثورية في عالم المرأة. كل يوم كان رونقها الثوري يزداد مع رونق الثورة، كانت منفتحة ومرنة لأجل التغيير والتحول. كانت ملهمة بأفكار الثورة ومؤمنة بها، لدرجة كنت تستطيع ان تستنبط من ملامح وجهها خارطة مستقبلها. فقد كانت بعيدة كل البعد عن الأهداف الشخصية الضيقة ولم تكن راكضة خلف المكاسب الفردية أو المراتب والسلطة والنفوذ، إدراكا منها بان هذه الثورة هي في الأساس ضد ذهنية السلطة والنفوذ والاستبداد، لذلك بروح مضحية وبحماس كبير كانت تقترب من عملها ووظائفها ومسؤولياتها. كانت تسير على قواعد واضحة، بأنه على المرء أن يكون مؤمناً بالروح الجماعية والتعاون وعمل الفريق، لأن الأنانية والفردانية ليست أسلوباً ضامناً لنجاح الثورة وهذا ما لا ينسجم مع شخصية المرأة.
سلاف انطلاقاً من وعيها المنَظَّم، بأنه يتوجب على المرأة أن تحلل واقعها وتستعين بطاقاتها وقوتها على مبدأ بأن الحياة والحرية هي عبارة عن نضال وكفاح. ذلك أنه لم يتحقق حبس المرأة بين أربعة جدران، إلا بعد تجريدها من هويتها النضالية المنظمة والمؤثرة. وعليه، فمن الضروري تكريس النضال النسائي المنظم في كافة مجالات الحياة ولا يجدر بالمرأة إلا أن تكون ذاتاً فاعلة في كل الميادين دون استثناء، ولكن بطابعها هي، وبرؤيتها وإرادتها الحرة وحسب خصوصياتها. وهذا ما قامت به رفيقة سلافا، فقد تحولت الى قيادية في مجلس العسكري لوحداتنا في الكونفرانس الأول الذي انعقد في عام ٢٠١٣.
وإن تحدثنا عن أمتن الروابط بين الجمال والحياة، فسلافا وبيريفان، فهن خير من مثلن ذلك. ونوهن بأنه من الضرورة نسج وتكريس الحياة الندية خطوة بخطوة، حياةً تحوي المعنى الحقيقي للحرية وثقافة المجتمعية، كون الجميع في سواسية لا عابد ولا معبود. والمقصود من الجمال هنا هو تحديد معايير السلوك والتصرف وفق علم الجماليات والفضيلة. فإذا كان جوهر الحياة الفاضلة يتجسد في الوعي الحر والتنظيم الرصين، فإن معايير الجماليات تعني ترسيخ ذلك إلى سلوكيات الراقية ولغة فاضلة. وبذلك فقط يغدو بالإمكان استرداد القيمة المفقودة، وإعادة المضمون الأصيل إلى مصطلح الانسان وتمكين الاحترام المتبادل وبذلك فقط ستغدو الحياة ذات معنى. وإذا قيمناه في منحى الاخر فهو التحلي بجمال الروح وانعكاس ذلك على الشكل والمضمون وتكمن هذه المعادلة في الوحدة وتناسق في إطار التنوع وتناغم.
سلاف وبيريفان جسّدنّ أنبل معاني العزة، الفداء وكرامة المرأة، وصن العهد للشعب والوطن، وقدمن للعالم نموذجاً فريداً في التضحية في سبيل ترسيخ نهج حرية المرأة وصون حقوقها، فهن الماضي القريب، ومصدر قدرتنا على الحياة في الحاضر، وقوة الدفع الأساسية نحو المستقبل. فلا شك أن مجد الأمم وكرامة الانسان لا تُبنى ولا تتحقق الا بتضحيات جسام، فهن كالشمس في كبد السماء تمنحن الدفء واستمرارية نور الحياة.
لقد خلقن ثقافة الشهادة والوفاء للعهد وأظهرن بكل جسارة وإنكار للذات معنى التفاني في سبيل رفع راية النصر للغاية المعهودة عالية، خفاقةً، عنواناً لنضال المرأة الثورية. وتأكيد مواقفهن الثابتة في مناصرة قضية جنسهن. لذا استطعن أن يسطرن فصلا في سجل الكرامة وما تزال رفيقاتهن ورفاقهن يسجلون فصولاً جديدة في هذا الطريق وستظل تضحيات شهداءنا الأبرار إرثاً وطنياً وارثاً لكفاح المرأة الحرة وقصصهن ستروى جيلا بعد جيل.
مكتب المعلومات و التوثيق لوحدات حماية المرأة_YPJ