بين جوانح الليل كان السكون يتألق على فوهات البنادق والغبطة تسترد أنفاسها من جديد بين الأرواح المتحابة في خلوة النفس، بعد الخشية القاتلة، بان يخطف الموت إحداهن برصاصة مجنونة.
في لحظات، كانت الحياة تلامس الموت وتدغدغه، ونظرات تسترق آثار الهلاك على أبدان بعضهن. رغماً عنها كانت الأفكار تسبح في فلك الأقدار والأمنيات.
كنت أسمع همهمات بنات وطني في الخنادق، يتحاورن ويتساءلن عن مآل هذا العالم الذي أنهكته الحروب ومزقت خارطته، تحت وطأة أقدام حكام سكرى، يتلذذون بالخمر الذي عتق في حناجر البائسين.
وعن مصير أطفال ما زالوا يتعلمون أبجدية الابتسامة، يرتشفون من نهود أمهاتهم دماً، والأيتام الذين يتقلبون(يتضورون) جوعاً، منتظرين آباءهم الذين رحلوا بدون رجعة، أن يجلبوا لهم خبزاً ساخناً وقطعة من السكر، وعن الأرامل اللواتي تلحفنًّ سواداً على عشقهنَّ المقتول وارهقهن النوى، والأمهات التي خيمن على تلال القرية، في قبلة الانتظار، تحدقن في حفيظة الأفق و الروابي العالية، منتظرات عودة أفلاذ الأكباد من زوابع الوغى، تسحبنَّ حبات المسابيح بألف دعاء مناجيات لله أن يتلطف بهم و بهنَّ في خزائن رحمته.
فالنفس دائما تترقب القدوم.
الذاكرة تائهة بين حاضر وماضي شعبي، تدور في دائرة التكرار لذات الصورة، الحدث، العدو وصدى صرخات تهدم جدران السمع، فلا تُنسى كيف كان الترك والعجم يسردون قصص بطولاتهم في حقولنا، يهلهلون ويتسامرون، يتباهون كيف كانوا يشقون بطوناً يافعات، وكيف تشارطوا على ما في الأحشاء من الأجنًّة أهي فتاة ام صبي؟؟(أهي ذكر أم أنثى)، و الرابح يحصل على كأس من النبيذ الممزوج بدمها وسيجارة من التبن المعفن.
هلهلة فتاة لم تتجاوز الثانية عشرة من عمرها وهي تركض (تهرول) بين جحافل خيولهم، ربما أملا بالنجاة وهم يتلهون بها في وقت الفراغ، اليوم تكرار سيد متوج، فجدائل أختي معلقة على شجرة المراد(الأمنيات/الأماني)، بعدما رمت بنفسها من أعلى الصخرة، خوفا من أن تدنسها الأيادي القذرة واستغاثة أمي التي تشق السماوات السبع وهي شاهدة على نحر أخي الصغير وإعدام ابن أمها وختومٌ هاجرتها الحياء على القبور الجماعية، فيها أبي، جدي وأبناء عمومتي. آه ما أكثر قصص شعبي وعمق ألمه. كم توعظني نفسي وكأن مثواي في الهنيهة الحاضرة، حرقتي لا تخمد.
في وطني تشنق الابتسامة، الكلمة والنظرة، في وطني يعدم الوجدان من الهمس، وتسجن الريحان إن عطرت ثياب أطفالي في يوم العيد، رغم هذا لن نفطر على القنوط والغبن، فالحبور والتيمن يوحى علينا من عمق المراد والرجاء وأن أمسى كل شيء بكما، صما وعميا، وها أنا لازلت هنا لم أفنى، لأني لم أمت ومسيرتي لن تزول.
فقد مللنا، سئمنا من كرم خياراتك ايها الفاني، لن نستهين قط بعد الآن، لن نسمح لك أن ترضع أطفالنا العبودية مع الخنوع، ولسنا عباداً نعبد عرشك الذي توارى خلف المثيولوجيات، وتدشنت بكل أبجديات العبودية منها السوداء، الشمطاء، الحدباء، العرجاء والرقطاء ، فأنت ممقوت مكروه.
نحن في زمنٍ، الحقيقة تذبح على مسارح الوجدان في عالم انصرف عن سماع صرخات الأحرار وهمسات الصدور الدامية وانزوت الكلمة الحرة في قيعان العالم السفلي، لكن أنا العاصفة الجبارة و أتنفس النار، فما عاد مسكني مغاور الذئاب.
كنت أسترق السمع لهن، أنساب برهة مع السكينة وأخرى أتحول الى عاصفة لا تستكين.
ورغم أن النرجس تحرس قبورهن اليوم، لكن خلودهن ثائرة.
شهيدات وطني، مواكب النصر، لم يخشين ضيم الخاشع لا بركعة ولا سجده، رغم أن وطني غنيمة حرب وجحافل جيوشهم تلهب فؤاد ترابها، فلا بأس، نحن على العهد و القسم باقون، وطني_وطننا قطعة من سماء، لن تسرح فيها غير الملائكة ولن يحرثها غير أهلها.
ثائرات وطني أعظم من مجد النصر، تتوشحن مراقي العلا، تنشدنَّ أهازيج عزة الانتصار. فلا يليق بهن غير الهيبة والوقار، الذي يرفع الحزن عن الدموع ويزيد من الرهبة في النفوس الكبيرة.
فكل ذرة من تراب وطني تشربت أصولها من دم بنات وطني فزادتها قدسية وتغذى منها العوسج والأقحوان لتعانق خيالات الثوريات اليافعات، تعطرن ضفائرهن بعبقها يوم تكريم الشهيد استعداداً لرغبتهن المرجوة وحفنة من أمانيهن.
شهيدات وطني، في وجع جرحهن نال أطفال وطني السكينة والكبرياء. وفي رحيلهن أدركنا الحر الحقيقي، الذي يحمل أثقال ألم شعبه المقيد بالصبر والتمني وجفونه التي لا تنقصها الدمعة، الثأر والأمل.
أدركنَّ من مدركاتهن بأن الحياة لا تتمهل لحجج أو براهين خالية، تسير متعالية، متكبرة على الذين لا يستحقونها. وحصدن من مقاصدهن أن الحياة ترسم ملامحها بأنامل ملهمة من وعي إنسانٍ ارتشف من كأس المحبة، الذي طهر فيه كل خباياه وكل ما يحوي بين جنباته من هوى وأفكار نارية.
رفيقات الدرب غروبكن هو شروقنا، فما كان يعلم الغدار بهذا، كان يهلهل، يقرع الطبول وينادي ها هنا أنا، موهماً ذاته بالنصر الغائب، ثملاً وكأنه خلق القدر المحتوم ولا يدرك بأننا ندور في الفلك السرمدي وفي كل دوران نحل ألف لغزٍ للحياة الأبدية، متعاقدين مع العهد، فلن يهنئ، فمن هو كي يدون على اللوح المحفوظ قدرنا. فالحقيقة المجردة وهي نحن ونحن موجودين ونعيش، لن ننحني فالتواضع سيكون لنا إهانة. عقودٌ ونحن نقرأ مواعظنا، آبهات بأن الفجر يأتي بعد الليل.
شهيدات وطني لم تبقى مسافة بين الخيال وما حققتموه، فقط قطعتن كل المسافات حتى وصلتن إلى ناقوس الآجل ، هو آجلنا، فقد هزمتن الأعداء في عقر دارهم، ينتابهم في برهة ألف وخزة هزيمة، فأحلامه تتساقط جثثا هامدة، حصباء تتحرج إلى وادي الموت.
آه الاشتياق يدمي القلوب ونعلم ما بعد الاشتياق اشتياق، فالذي يملي المسافة بين الاشتياق واللقاء هو الاستذكار، فالمخيلة لها ثوب، فهي تدني المسافات وتقطع الأزمنة، وتفجر ينابيعا تروي ظمأ النوى في ذواتنا.
لا تحملن هماً، فحتى فأمهاتكن عاهدنَّ أن لا تعيدن آهات الفراق على مسامعكن، يحاورن أرواحكن الحائمات، متعاقدات مع حسهن للقاء الأبدي، وفي مخيلتهن لا حبل السرة انقطع و متيقنات بأنه لم تجف قطرة حليب صدورهن من على شفاه طفلتهن الصغيرة ،والقلب هو الشهيد.
تصغين إليكن وتتباهين، هذه هي ابنتي التي وفت حينما قالت: عهداً أيها الغاصب، لن نجثو الركب أمام أصنامك، ستتكفن بوعودك الزائفة في قتلي، فأنا ابنة أمي وأقسمت بحليبها وبعرق جبهة والدي الذي هدته أتعاب الدهر وظلمك، فقد أنجبتني أمي في ليلة القدر وأسمتني مجد الأثيل ولم تدون في قاموس كفاحي كلمة الركود والاستسلام. ففي فطرتنا سُنة الارتقاء.
نعم الشمس ستشرق من جبهة شهيدات وطني وستزيل ستائر الظلام من على حقولنا والربيع سيحل علينا برونقه، سنزرع قمحنا وستدخل رائحة خبز التنور إلى بيتنا، سيتفتح النرجس حول قبر أمي مرتسمة على ووجها ابتسامتها وسيعود أخي وأختي الثائرة من جبهة الصمود وفي جعبتهم بشائر النصر، على صدر أخي وسام الرجل الوطني وأختي وسام الوفاء واضفر ضفائرها مثلما كنت أفعلها وهي صغيرة، ونشرب معا نخب نشوة اللقاء في كؤوس الأحلام العِذَاب.
مكتب المعلومات و التوثيق لوحدات حماية المرأة_YPJ